هل ترجع عملية الابداع الى شروط نفسية فقط ؟ جدلية
I- طرح المشكلة : إن الابداع هو ايجاد شيئ جديد ، وذلك ما
يكشف عن اختلافه عن ماهو مألوف ومتعارف عليه ، وعن تحرره من التقليد ومحكاة الواقع
. ومن جهة أخرى ، فإن عدد المبدين – في جميع المجالات – قليل جدا مقارنة بغير المبدعين
، وهو ما يوحي ان تلك القلة المبدعة تتوافر فيها صفات وشروط خاصة تنعدم عند غيرهم ،
فهل معنى ذلك ان الابداع يتوقف على شروط ذاتية خاصة بالمبدع ؟
II– محاولة حل المشكلة :
أ – عرض الاطروحة : يرى بعض العلماء ، ان الابداع يعود
اصلا الى شروط نفسية تتعلق بذات المبدع وتميزه عن غيره من غير المبدعين كالذكاء وقوة
الذاكرة وسعة الخيال والاهتمام والارادة والشجاعة الادبية والجرأة والصبر والرغبة في
التجديد .. اضافة الى الانفعالات من عواطف وهيجانات مختلفة . ومن يذهب الى هذه الوجهة
من النظر الفيلسوف الفرنسي ( هنري برغسون ) والعالم النفساني ( سيغموند فرويد ) الذي
يزعم ان الابداع يكشف عن فاعلية اللاشعور وتعبير غير مباشر عن الرعبات المكبوتة .
ب – الحجة : ويؤكد ذلك ، أن استقراء حياة المبدعين – في مختلف
ميادين الابداع – يكشف ان هؤلاء المبدعين انما يمتازون بخصائص نفسية وقدرات عقلية هيأتهم
لوعي المشاكل القائمة وايجاد الحلول لها .
فالمبدع يتصف بدرجة عالية من الذكاء والعبقرية ، فإذا كان الذكاء – في
احد تعاريفه – قدرة على حل المشكلات ، فإنه يساعد المبدع على طرح المشاكل طرحا صحيحا
وايجاد الحلول الجديدة لها . ثم ان المبدع في تركيبه لأجزاء وعناصر سابقة لإبداع جديد
انما يكشف في الحقيقة عن علاقة بين هذه الاجزاء او العناصر ، والذكاء – كما يعرف ايضا
– هوادراك العلاقات بين الاسشياء اوالافكار .
واصل كل ابداع التخيل المبدع ، والتخيل – اصلا – هو تمثل الصور مع تركيبها
تركيبا حرا وجديدا ، لذلك فالابداع يقتضي مخيلة قوية وخيالا واسعا خصبا ، فكلما كانت
قدرة الانسان على التخيل اوسع كلما استطاع تصور صور خصبة وجديدة ، وفي المقابل كلما
كانت هذه القدرة ضيقة كان رهينة الحاضر ومعطيات الواقع .
ويشترط الابداع ذاكرة قوية ، فالعقل لا يبدع من العدم بل استنادا الى
معلومات وخبرات سابقة التي تقتضي تذكرها ، لذلك فالذاكرة تمثل المادة الخام والعناصر
الاولية للابداع .
هذا ، واستقراء حياة المبدعين وتتبع اقوالهم وهم يصفون حالاتهم قبل الابداع
اواثنائه ، يؤكد دور الارادة والاهتمام في عملية الابداع ، فمن كثرة اهتمام العالم
الرياضي الفرنسي ( بوانكاريه ) بإيجاد الحلول الجديدة للمعادلات الرياضية المعقدة ،
غالبا ما كان يجد تلك الحلول وهو يضع قدميه على درج الحافلة ، وهذا ( ابن سينا ) قبله
من شدة اهتمامه بمواضيع بحثه كثيرا ما كان يجد الحلول للمشكلات التي استعصت عليه اثناء
النوم . والعالم ( نيوتن ) لم يكتشف قانون الجاذبية لمجرد سقوط التفاحة ، وانما كان
يفكر باهتمام بالغ وتركيز قوي في ظاهرة سقوط الاجسام ، وما سقوط التفاحة الا مناسبة
لاكتشاف القانون .
وما يثبت دور الحالات الوجدانية الانفعالية في عملية الابداع ان التاريخ
يثبت – على حد قول برغسون – ان « كبار العلماء والفانين يبدعون وهم في حالة انفعال
قوي » . ذلك ان معطيات علم النفس كشفت ان الانفعالات والعواطف القوية تنشط المخيلة
التي هي المسؤولة عن عملية الابداع . وبالفعل ، فاروع الابداعات الفنية والفكرية تعبر
عن حالات وجدانية ملتهبة ، فلقد اجتمعت عواطف المحبة الاخوية والحزن عند ( الخنساء
) فأبدعت في الرثاء .
ولما كان الابداع هو ايجاد شيئ جديد ، فماهو جديد – في جميع المجالات
– يقابل برفض المجتمع لتحكم العادة ، فمثلا افكار( سقراط ) و ( غاليلي ) قوبلت بالرفض
والاستنكار ، ودفعا حياتهما ثمنا لافكارهما الجديدة ، وعليه فالمبدع اذا لم يتصف بالشجاعة
الفكرية والادبية والروح النقدية والميل الى التحرر .. فإنه لن يبدع خشية مقاومة المجتمع
له
.
جـ - النقد : ولكن الشروط النفسية المتعلقة بذات المبدع وحدها
ليست كافية لحصول الابداع ، إذ معنى ذلك وجود ابداع من العدم . والحقيقة انه مهما طالت
حياة المبدع فانه من المحال ان يجد بمفرده اجزاء الابداع ثم يركبها من العدم . ومن
جهة أخرى ، فالذكاء – الذي يساهم في عملية الابداع – وان كان في اصله وراثيا ، فإنه
يبقى مجرد استعدادات فطرية كامنة لا تؤدي الى الابداع مالم تقم البيئة الاجتماعية بتنميتها
وابرازها . كما يستحيل الحديث عن ذاكرة فردية محضة بمعزل عن المجتمع . واخيرا ، فإن
ان هذه الشروط حتى وان توفرت فهي لا تؤدي الى الابداع مالم تكن هناك بيئة اجتماعية
ملائمة تساعد على ذلك . وهذا يعني ان للمجتمع نصيب في عملية الابداع .
أ – عرض نقيض الاطروحة : وعلى هذا الاساس ، يذهب الاجتماعيون الى
ان الابداع ظاهرة اجتماعية بالدرجة الاولى ، تقوم على ما يوفره المحتمع من شروط مادية
او معنوية ، تلك الشروط التي تهيئ الفرد وتسح بالابداع . وهو ما يذهب اليه انصار النزعة
الاجتماعية ومنهم ( دوركايم ) الذي يؤكد على ارتباط صور الابداع المختلفة بالاطر الاجتماعية .
ب – الحجة : وما يثبت ذلك ، ان الابداع مظهر من مظاهر الحياة
الاجتماعية اما لجلب منفعة او دفع ضرر ، فالحاجة هي التي تدفع الى لابداع وهي ام الاختراع
، وتظهر الحاجة في شكل مشكلة اجتماعية ملحة تتطلب حلا ، فإبـداع ( ماركس ) لفكرة
" الاشتراكية " انما هو حل لمشكلة طبقة اجتماعية مهضومة الحقوق ، و اكتشاف
( تورشيلي ) لقانون الضغط جاء كحل لمشكلة اجتماعية طرحها السقاؤون عند تعذر ارتفاع
الماء الى اكثر من 10.33م .
كما ان التنافس بين المجتمعات وسعي كل مجتمع الى اثبات الوجود ما يجعل
المجتمع يحفز افراده على الابداع ويوفر لهم شروط ذلك ؛ فاليابان – مثلا – لم تكن شيئا
يذكر بعد الحرب العالمية الثانية ، لكن تنافسها الاقتصادي مع امريكا واروبا الغربية
جعل منها قوة خلاقة مبدعة . كما ان التنافس العسكري بين امريكا والاتحاد السوفياتي
سابقا ادى الابداع في مجال التسلح .
كما ترتبط ظاهرة الابداع بحالة العلم والثقافة القائمة ؛ وما يثبت ذلك
مثلا انه من المحال ان يكتشف المصباح الكهربائي في القرن السابع ، لأنه كإبداع يقوم
على نظريات علمية رياضية فيزيائية لم تكن متوفرة وقتذاك . ولم يكن ممكنا اكتشاف الهندسة
التحليلية قبل عصر ( ديكارت ) ، لأن الجبر والهندسة لم
يبلغا من التطور ما يسمح بالتركيب بينهما . ولم يبدع شعراء كبار مثل
( المتنبي ، أبو تمام .. ) الشعر المسرحي في عصرهم ، لأن الادب المسرحي لم يكن معروفا
حينذاك . وتعذر على ( عباس بن فرناس ) الطيران ، لأن ذلك يقوم على نظريات علمية لم
تكتشف في ذلك العصر .
ويرتبط الابداع – ايضا - بمختلف الظروف السياسية ؛ حيث يكثر الابداع اليوم
في الدول التي تخصص ميزانية ضخمة للبحث العلمي وتهيئ كل الظروف التي تساعد عى الابداع
. ولقد عرفت الحضارة الاسلامية ازهى عصور الابداع ، لما كان المبدع يأخذ مقابل ابداعه
ذهبا وتشريفا .
جـ - النقد : غير ان التسليم بأن الشروط الاجتماعية وحدها كافية
لحصول الابداع يلزم عنه التسليم ايضا ان كل افراد المجتمع الواحد مبدعين عند توفر تلك
الشروط وهذا غير واقع . كما ان الاعتقاد ان الحاجة ام الاختراع غير صحيح ، فليس من
المعقول ان يحصل اختراع او ابداع كلما احتاج المجتمع الى ذلك مهما وفره من شروط ووسائل
. وما يقلل من اهمية الشروط الاجتماعية هو ان المجتمع ذاته كثيرا ما يقف عائقا امام
الابداع ويعمل على عرقلته ، كما كان الحال في اروبا إبّـان سيطرة الكنيسة في العصور
الوسطى
.
التركيب : ان الابداع كعملية لا تحصل الا اذا توفرت لها شروط
ذلك ، فهي تتطلب اولا قدرات خاصة لعلها لا تتوفر عند الكثير ، مما يعني ان تلك القلة
المبدعة لم تكن لتبدع لولا توفرها على تلك الشروط ، غير انه ينبغي التسليم ان تلك الشروط
وحدها لا تكفي ، فقد تتوفر كل الصفات لكن صاحبها لا يبدع ، مالم يجد مناخ اجتماعي مناسب
يساعده على ذلك ، مما يعني ان المجتمع يساهم بدرجة كبيرة في عملية الابداع بما يوفره
من شروط مادية ومعنوية ، مما ؤدي بنا الى القول ان الابداع لا يكون الا بتوفر الشروط
النفسية والاجتماعية معا .
حل المشكلة : وهكذا يتضح ان عملية الابداع لا ترجع الى شروط نفسية
فقط ، بل وتتطلب بالاضافة الى ذلك جملة من الشروط الاجتماعية فالشروط الاولى عديمة
الجدوى بدون الثانية ، الامر الذي يدعونا ان نقول مع ( ريبو ) : « مهما كان الابداع
فرديا ، فإنه يحتوي على نصيب اجتماعي » .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق