نص المقال : هل يكفي أن نكرر أمرا حتى
نتعلمه ؟
الطريقة : جدلية
طرح المشكلة : لا أحد يستطيع إنكار دور وضرورة التكرار
في تعلم الكثير من العادات والمهارات الحركية والذهنية معا ، فالإنسان لا يتعلم
السباحة بمجرد أن يدخل البحر ، ولا يستطيع أن يعزف لحنا موسيقيا إلا بعد قيامه
بمحاولات كثيرة ، كما أن حفظ قصيدة شعرية تقتضي من كل إنسان مهما تكن قوة ذاكراته
قراءتها مرات عديدة ، لكن الإشكال المطروح هل التكرار يبقى العامل الوحيد لتكون
العادات ؟ وإذا كان التكرار شرطا ضروريا فهل هو مع ذلك كاف ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض الموقف الأول : يرى هذا
الموقف أن التكرار شرط كاف لتكون العادات ، ويبقى هو العامل الأساسي لاكتساب
العادة ، فالاكتساب العادة لابد من التعلم والتعلم يقتضي بوجه عام ميلا للعمل
وتكرار هذا العمل ، فكلما كان الميل أقوى كان اكتساب العادة أسرع وأكثر رسوخا ،
والعمل إذا تكرر مع وجود الميل أصبح عادة ، والتكرار بصورة عامة ضروري ويجب أن
يستمر إلى أن يصدر العمل بدون جهد وبسهولة تامة ، وهذا ما أكده الفيلسوف اليوناني أرسطو
قديما حين قال : (( إن العادة وليدة التكرار )) ، ولقد اتخذ أنصار الموقف
الآلي حديثا بوحي من هذه الفكرة الأرسطية من الفعل المنعكس الشرطي أساسا لتفسير
السلوك تفسيرا ميكانيكيا محضا ، ويرجع تفسير تكوين العادات بطريقة المنعكس الشرطي
إلى العالم الفيزيولوجي الروسي بافلوف وهذا من خلال التجارب التي أجراها
على الكلاب فقد أثبت أن الكلب يتعلم الاستجابة الشرطية بعد تكرار عملية الاقتران
بين المنبه الطبيعي ( اللحم المجفف ) والمنبه الاصطناعي ( صوت الجرس ) لعدة مرات ،
ولقد تتكون العادات بطريقة أخرى أقل بساطة تعرف بالمحاولة والخطأ ، وهذه الطريقة
يرجع الفضل فيها إلى العالم النفساني الأمريكي ثورندايك حيث أثبت هذا الأخير أن الحيوان يتعلم بعض
المهارات والسلوكات عن طريق التكرار وهذا من خلال قيامه بتجربة فقد كان يضع قطا
جائعا داخل قفص وتوضع بالقرب منه وخارج القفص قطعة من السمك وكان لا يستطيع أن يخرج
إلا بالضغط على مزلاج خاص فكان القط في المحاولات الأولى يستغرق وقتا طويلا للخروج
من القفص لأنه يقوم بحركات عشوائية خاطئة ولا يتمكن من الخروج إلا بالضغط على المزلاج
بالصدفة ، لكن القط في نهاية الأمر أصبح قادرا على الخروج مباشرة من القفص بعد
وضعه داخله .
النقد : لا شك أن
التكرار ضروري لتعلم بعض العادات والمهارات الحركية لكن هذا لا يعني أنه شرط ضروري
وكاف ، إن كلب بافلوف لا يتعلم الاستجابة الشرطية لصوت الجرس إلا إذا كان جائعا ،
فالطفل لا يتعلم العزف على آلة موسيقية إلا إذا كان لديه حافز ودافع إلى ذلك .
عرض الموقف الثاني : يرى هذا
الموقف أن التكرار ليس شرطا ضروريا وكافيا في اكتساب العادة فالإنسان لا يتعلم كل
شيء عن طريق التكرار لأنه يستطيع بعقله وذكائه أن يبدع حلولا ناجحة يطبقها مباشرة في
الواقع ولا يحتاج إلى التكرار، وهذا ما أكده العالم النفساني الألماني كوهلر من
خلال التجارب التي قام بها على القردة فقد لا حظ أن القرد لا يقوم بمحاولات
عشوائية ولا يهتدي إلى الحل السليم الناجح للمشكلة التي يواجهها بالصدفة بل إنه
قادر على استبصارأي إدراك عناصر المشكلة والصعوبة دفعة واحدة ثم إبداع الحل
المناسب والناجح كإسقاط الموز المعلق في السقف مثلا باستعمال العصا كتجربة أولى ثم
إسقاط الموز المعلق بوضع أحد الصندوقين فوق الآخر كتجربة ثانية ثم إسقاط الموز
المعلق بإدخال أحد العصايتين في الأخرى كتجربة ثالثة ،وهذا ما يبين لنا أن الكائن الحي لو يبقى يكرر نفس الحركات فهذا
يعني أنه يكرر نفس الأخطاء وعندئذ يفشل في مهمته
كما ذهب الفيلسوف الفرنسي رافسون إلى أن
العادة لا تحتاج إلى تكرار الفعل عدة مرات بل ربما يتم اكتسابها لأول مرة إذ يرى
أن العادة استعداد نحو تغير يتولد في كائن عن طريق استمرار أو تكرار هذا التغير
نفسه ، فالعادة إذن ليس المقصود بها العادة المكتسبة فقط عن طريق التكرار وإنما
العادة المتكونة عن تغير وبالتالي فالعادة حسب رافسون استعداد وملكة يتولد في
الذات .
النقد : إن التكرار الذي يفيد
التعلم هو تكرار المحاولات وليس تكرار الحركات ، ولكن التكرار مع ذلك يقوي ويرسخ
الحركة في الذات ، كما نلاحظ أن العادات التي لم تستفد من التكرار لمدة طويلة من
الزمن تضعف أو تزول ، وهذا ما يفسر مثلا ضرورة القيام بتدريبات متواصلة ومنظمة في
مجال الرياضة .
التركيب : إن التكرار
لوحده لا يفسر ظاهرة التعلم واكتساب العادات بمختلف أشكالها وأنواعها لكنه شرط
ضروري لتعلم كثير من العادات ، إن وجود الدافع والذكاء والحدس عوامل ضرورية في
اكتساب بعض العادات وتبرز هذه الضرورة عندما يتعلق الأمر بالإنسان الذي يكتسب
خبرات ومهارات لا يمكن مقارنتها بتلك التي نجدها عند الحيوان ، فالتكرار وحده لا
يستطيع تفسير الضرب على آلات موسيقية معقدة كالبيانو مثلا .
حل المشكلة: في الأخير
يمكن أن نؤكد على أهمية عامل التكرار في اكتساب العادات لكن يبقى هذا
العامل ليس كافيا فلا بد من وجود عوامل أخرى كالذكاء والحدس والدافع ولهذا فالعادة
ليست سلوكا آليا محضا ، إنها تبقى دائما تحت مراقبة الشعور والإرادة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق