الموضوع
: تحليل مقال فلسفي
نص المقال : هل الإبداع من طبيعة نفسية
أو اجتماعية ؟
طرح
المشكلة : إن استقراء تاريخ الحضارات يكشف
لنا أن الأمم التي لها ذكر في التاريخ عبر أزمانه
إنما هي أمم على درجة من الإبداع
سواء في المجال الفني أو العلمي أو الفلسفي...
وبالنظر إلى أهمية الإبداع في وجود الأمة واستمرارها فقد كان موضوع دراسة
بعض الفلاسفة والعلماء ,قصد تفسير طبيعته وبيان الدوافع التي تحفز المبدعين
وتدفعهم إلى الإنتاج الإبداعي .
ومن بين الإشكاليات التي أثيرت بشأن تفسير
ظاهرة الإبداع نذكر : هل الإبداع عملية سحرية يمتاز بها عدد من البشر الملهمين ؟
أو هو ظاهرة وضعية تتحدد بشروطها الاجتماعية ؟ وبمعنى أشمل : هل الإبداع من طبيعة
نفسية أو من طبيعة اجتماعية ؟
محاولة
حل المشكلة :
الرأي
الأول الموقف القائل :( إن الإبداع من طبيعة نفسية ) إن الإبداع من منظور النظرية النفسية ظاهرة
نجدها عند البعض الأفراد ولا نجدها عند غيرهم بدليل إن العباقرة الذين كانوا وراء
التغيرات الحادثة في تاريخ الفكر والحضارة يمتازون بخصائص نفسية وقدرات عقلية ,
وكل ما يشحذ الذات ويدفعها إلى الإبداع من دوافع وانفعالات سارة أو مؤلمة تساعد
على انجاز العمل الإبداعي . ومن المفكرين والفلاسفة الذين أكدوا أن الإبداع كشف
يطالع النفس ويشرق في جوانبها فجأة عالم الكلام – حجة الإسلام –( أبو حامد الغزالي
) حيث قال : " إن الإلهام كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف لطيف فارغ
" . وأكد عالم الطبيعة الفرنسي (جوس ) نفس الفكرة حيث قال : " وأخيرا
... نجحت لا لأنني بذلت جهودا مضنية , ولكن بهبة من الله كأن إشراقا حدث فجأة وحل
اللغز ." إذن الإلهام لحظات قصيرة تتفتق فيها عبقرية الإنسان عن إبداعات قد
تحدث في لحظات مغايرة للمنطق فتكون أثرا لا يقاس على مثال .فقد ذكر أفلاطون في
محاورة ( أيون ) والتي تحدث فيها عن الإلياذة وهوميروس : " إن الشاعر كائن
أثيري مقدس , ذو جناحين لا يمكن أن يبتكر قبل أن
يلهم , فيفقد صوابه وعقله , ومدام الإنسان يحتفظ بعقله فانه لا يستطيع أن
ينظم الشعر ". و يقال أن (فاجنر )
سمع في منامه اللحن الأساسي الذي يتردد في افتتاحية رائعته الموسيقية ( ذهب الرين ) . ويحكى عن الشاعر الانجليزي
(كولردج ) أنه كان يطالع ذات صباح فغلبه النعاس ثم أفاق من نومه وأخذ يخط بسرعة
قصيدته المشهورة ( كوبلاخان ) حتى وصل إلى البيت 54 منها ...ثم خمدت نار الإلهام
فكف عن الكتابة وترك القصيدة ولم يعد لها قط . غير أن الموهبة والإلهام بدون عمل
وجهد لا معنى لهما . فلقد عبر( بوانكريه ) عن اكتشافاته الرياضية بأنها بدت له
فجأة وفي مناسبات لم يكن يفكر أثناءها في
هذه الموضوعات لكن حدث هذا بعد جهود السنين الطوال فتظهر له الحلول فجأة في صورة
الهام غير متوقع لذلك قال : " إن
الحظ يحالف النفس المهيأة " . ويؤكد الفيلسوف الفرنسي ( هنري برغسون ) أن
لعملية الإبداع أصول نفسية عميقة , وهي كثيرا ما تكون مصحوبة بمظاهر انفعالية حادة
إذ ذكر : " أن العظماء الذين يتخيلون الفروض , و الأبطال , والقديسين الذين يبدعون المفاهيم الأخلاقية ,
لا يبدعونها في حالة جمود الدم , وإنما يبدعون في جو حماسي و تيار ديناميكي تتلاطم
فيه الأفكار " . و تذهب مدرسة التحليل النفسي إلى بيان أن الإبداع ظاهرة
نفسية لاشعورية ففرو يد يرى أن التسامي هو المسئول عن كل الانجازات الحضارية التي
قام بها الإنسان : " إن الصراعات الجنسية الطفيلية والرغبات العدوانية التي
تؤدي إلى السلوك العصابي لدى من لا يستطيعون حلها حلا سويا , هي نفسها التي يحلها المبدع
عن طريق التسامي أو الإعلاء فينشأ عن ذلك أشكال النشاط الإبداعي المختلفة " .
مناقشة : أن الأدلة التي أستند إليها
القائلون بالطبيعة النفسية للإبداع لا تشكل دليلا قاطعا على صحة هذا الرأي
فالموهبة والذكاء الفطري الحاد إذا لم يجدا البيئة المناسبة التي ينموان من فأنها حتما سيضمحلان . كما أن الإلهام ليس
ضربا من الوهم فهو مهما كانت صفته فأن
مصدره الواقع إذ أن المبدع وإن كان يتجاوز بخياله الواقع إلا أنه ينطلق منه . كما
أن تفسير ( فرويد )لم تؤِكده التجربة العلمية .
الرأي
الثاني الموقف القائل :( إن الإبداع من
طبيعة اجتماعية ) غير
أن المبدع في نظر الفلاسفة الاجتماعين لا يستمد مادة إبداعه من واقع المجتمع فحسب
, بل إن نشاطه يعتبر ظاهرة اجتماعية مثل بقية الظواهر الاجتماعية الأخرى وهذا ما
يراه ( دوركايم ) وبين أن عملية الإبداع مهما تعددت مجالاتها تتحكم فيها شروطا
اجتماعية , لان الإبداع يتوقف من جهة أخرى
على حاجات المجتمع , وعلى درجة النمو التي بلغها من جهة أخرى .فالإبداع من هذا
المنظور يعتبر تراثا اجتماعيا تتناقله الأجيال , ومدام الفرد من صنع الجماعة فلابد
أن تكون سلوكا ته بما فيها السلوكات الإبداعية من نتاج المجتمع . إن الفنانين
والعلماء لا يبدعون لأنفسهم و وإنما وفق ما يحتاج أليه المجتمع , وما يسمح به وكل تراث علمي أو فني هو شاهد على روح العصر و
الثقافة السائدة في المجتمع فأدب الفروسية
هو تجسيد لطبيعة المجتمع القبلي , واختراع وسائل الحرب ما هو إلا وسيلة للمحافظة
على كيان المجتمع ... كما أن المصباح الكهربائي الذي اخترعه ( أيدسون ) دعت إليه
حاجة المجتمع للإنارة , وكذلك وسائل النقل
وهذا
يدل على أن المبدع لا يعالج إلا المشاكل التي تظهر في وسطه الاجتماعي , ولا يبدع
أي شيء إلا إذا توفر ت لديه جملة من الشروط الاجتماعية منها ما يتعلق بالشروط
الاقتصادية فالإبداع سمة المجتمعات الراقية المتطورة حضاريا و المزدهرة اقتصاديا .
وكذلك المجتمعات التي لايتوفر فيها الأمن و الاستقرار و الحياة الاجتماعية العادلة
لايمكن أن توفر شروط الإبداع .
مناقشة : وعلى الرغم من أن المبدع يستقي
مادة إبداعه من الواقع الاجتماعي , عملية الإبداع تحمل في طياتها بصمات تعبر عن
حرية العقل ذلك أن الأ فكار الجديدة غالبا ما تقابل بالرفض من قبل المجتمع إن كانت
تخالف عاداته ومعتقداته وهدا ما حدث ل (غاليي )
عندما اكتشف فكرة دوران الأرض حول الشمس , حيث قوبلت بالرفض والاستنكار من
قبل المجتمع لأنها تتناقص الفكرة السائدة التي تقول بثبات الأرض وأكد المفكر ( غاستون بوتول) في سياق نقده
لفكرة المجتمع كشرط ضروري للإبداع : " فليس هناك فكر بدون ذات مفكرة , ولا
إبداع بدون مبدع , فعوامل الإبداع يجب أن توجد كاملة في وظائف المبدع الثقافية
التي لا يمكن تصورها طبعا بدون الحياة الاجتماعية التي تقويها وتعمل على التعبير
عنها " . ويؤكد ( روني بوار يل) :
" إن الاختراع لا يتحقق في غياب عقل قادر عليه , وان كانت البنيات الثقافية
في المجتمع ملائمة
التركيب :من خلال تحليل الرأيين تتبين مغالاة كل نظرية في تأكيد ما اعتقدت أنه
الطبيعة الوحيدة للإبداع والأقرب إلى الموضوعية هو القول إن الإبداع من طبيعة
نفسية كم انه من طبيعة اجتماعية . إذ لا يمكن إنكار دور العوامل النفسية في عملية
الإبداع , لأن الإبداع تجسيد لما يختلج في النفس من معاني وصور , ولكن تحقيقه
يحتاج إلى مناخ اجتماعي وحضاري يوفر
للمبدع حملة من الشروط الاجتماعية التي من دونها تصبح عملية الإبداع أمرا صعبا ,
مما يجعلنا في النهاية نعتقد أن عملية الإبداع تقوم على التكامل بين الشروط
النفسية و الشروط الاجتماعية .
حل
المشكلة :نستنتج من خلال ما تقدم إن عملية
الإبداع لا تنطلق من العدم , بل لابد أن تستند إلى معطيات موجودة في الواقع
فالمبدع ينتقي عناصر إبداعه من هذه المعطيات
غير أنها لوحدها غير كافية فلابد أن ترتكز على القدرة الفطرية على الإبداع
. وعليه يمكن القول إن الإبداع موهبة
صقلتها الأعمال والجهود وهيأتها التربية الاجتماعية المناسبة والإلهام هو لحظات
اقتطاف تلك الثمرة
اليافعة والمفيدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق