نص المقال: هل يستطيع المؤرخ أن يتجاوز العوائق التي
تمنعه من تحقيق الموضوعية؟
الطريقة: جدلية
طرح المشكلة : إن العلوم الإنسانية هي العلوم التي
تهتم بدراسة الواقع الإنساني، وبذلك فهي تهتم بالإنسان، حيث يهتم علم النفس بالبعد
الفردي في الإنسان، ويهتم علم الاجتماع بالبعد الاجتماعي، ويهتم التاريخ بالبعد
التاريخي. والتاريخ هو بحث في أحوال البشر الماضية في وقائعهم وأحداثهم وظواهر
حياتهم. وبناء على هذا فإن الحادثة التاريخية تتميز بكونها ماضية ومن ثمة فالمعرفة
التاريخية معرفة غير مباشرة لا تعتمد على الملاحظة ولا على التجربة الأمر الذي
يجعل المؤرخ ليس في إمكانه الانتهاء إلى وضع قوانين عامة، والعلم لا يقوم إلا على
قوانين كلية، وهذا على الأساس فالتساؤل المطروح: هل هذه الصعوبات تمنع التاريخ من
أن يأخذ مكانه بين مختلف العلوم الأخرى؟ أو بمعنى آخر: هل خصوصية الحادثة
التاريخية تمثل عائقا أمام تطبيق الأساليب العلمية في دراستها؟
محاولة حل
المشكلة :
عرض الموقف
الأول: يذهب بعض المفكرين إلى أن الحوادث التاريخية لا تخضع
للدراسة العلمية لأن الخصائص التي تقوم عليها الحادثة التاريخية تمثل عائقا أمام
تطبيق الأساليب العلمية في دراستها. ومن هذه الخصائص أن الحادثة التاريخية حادثة
إنسانية اجتماعية، كما أنها حادثة فريدة من نوعها لا تتكرر، وبناء على هذه العوائق
التي تقف أمام تطبيق الدراسة العلمية في التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول
بأن التاريخ علم منها انعدام الملاحظة المباشرة للحادثة التاريخية كون حوادثها
ماضية، ثم استحالة إجراء التجارب في التاريخ وهو ما يجعل المؤرخ بعيدا عن إمكانية
وضع قوانين عامة، فالعلم لا يقوم إلا على الأحكام الكلية كما يقول أرسطو: « لا علم
إلا بكليات »، هذا بالإضافة إلى تغلب الطابع الذاتي في المعرفة التاريخية، ثم أن
كلمة العلم تطلق على البحث الذي يمكن من التنبؤ في حين أن نفس الشروط لا تؤدي إلى
نفس النتائج وبالتالي لا قدرة على التنبؤ بالمستقبل في التاريخ .
النقد : مما لا شك فيه أن هذه الاعتراضات
لها ما يبررها من الناحية العلمية خاصة، غير أنه ينبغي أن نؤكد بأن هذه الاعتراضات
لا تستلزم الرفض القاطع لعلمية التاريخ، لأن بعض المؤرخين استطاعوا أن يكونوا
موضوعيين إلى حد ما، وأن يتقيدوا بشروط الروح العلمية.
عرض الموقف
الثاني : يذهب بعض
المفكرين إلى أن الظاهرة التاريخية لها خصوصيتها فهي تختلف من حيث طبيعة موضوعها
عن العلوم الأخرى، وبالتالي من الضروري أن يكون لها منهجا يخصها، وهكذا أصبح
المؤرخون يستعملون في دراساتهم منهجا خاصا بهم وهو يقوم على مراحل:
أ ـ جمع المصادر والوثائق: يبدأ
المؤرخ يجمع الوثائق والمصادر المتعلقة بالحادثة ، فالوثائق هي السبيل الوحيد
لمعرفة الماضي.
ب ـ نقد المصادر و الوثائق ، فبعد
الجمع تكون عملية الفحص و النظر والتثبت من خلو الوثائق من التحريف و التزوير ،
وفي هذا يقول ابن خلدون عن التاريخ « فهو محتاج على مآخذ متعددة و معارف متنوعة و
حسن نظر وتثبيت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، لآن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد
النقل فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم و الحيد عن جادة الصدق ».
ج ـ التركيب التاريخي: تنتهي عملية
التحليل إلى نتائج جزئية مبعثرة يعمل المؤرخ على تركيبها في إطارها الزماني
والمكاني ، ثم يربط نتائجه ببيان العلاقات التي توجد بينهما و هو ما يعرف التعليل
التاريخي.
النقد : مما لا شك فيه
أن علم التاريخ قد تجاوز الكثير من الصعوبات التي كانت تعرقله وتعطله، لكن رغم ذلك
لا يجب أن نبالغ في اعتبار الظواهر التاريخية موضوعا لمعرفة علمية بحتة ، لأن
الحادث التاريخي حادث إنساني لا يستوف شروط العلم.
التركيب : إن للحادثة التاريخية خصائصها مثلما
للمادة الجامدة أو المادة الحية خصائصها وهذا يقتضي اختلاف في المنهج، ولهذا
فالتاريخ علم من نوع خاص ليس علما استنتاجيا كالرياضيات و ليس استقرائيا كالفيزياء
، وإنما هو علم يبحث عن الوسائل العلمية التي تمكنه من فهم الماضي وتفسيره ، و على
هذا الأساس فإن القول بأن التاريخ لا يمكن أن يكون علما لأنه يدرس حوادث تفتقر إلى
شروط العلم أمر مبالغ فيه ، كما أن القول بإمكان التاريخ أن يصبح علما دقيقا أمر
مبالغ فيه أيضا، وعليه فإن الحوادث التاريخية ذات طبيعة خاصة مما استوجب أن يكون
لها منهجا خاصا بها.
حل المشكلة : في الأخير يمكن أن نؤكد أن التاريخ
علم له موضوعه الخاص و يتبع في ذلك منهجا يتفق مع طبيعة الموضوع ، لكن هذا يتوقف
على التزام المؤرخ بالشروط الأساسية للعلوم وخاصة الموضوعية، وعليه فإن مقعد التاريخ بين العلوم الأخرى يتوقف على
مدى التزام المؤرخين بخصائص الروح العلمية والاقتراب من الموضوعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق